ثقافة

الدار الحمراء

الدار الحمراء

للكاتب أحمد سليمان العمري

 

Advertisements

لو أفقت من نومك وأنت بين أسوارها لاعتقدت أنك في مكة أو المدينة. وإن أردت للحظة إنكار ما تراه عيناك لقلت أنك أحد المرابطين أو الموحدين. أبوابها كأبواب الحمراء وألوانها وادي رم والبتراء. نخيلها العراق وخضرتها جِنان عُمان، حدائقها بشتى ألوانه وما أجمل زرقته، ما رأت عينك بغير الدار الحمراء، قصورها الأندلس، البديع والباهية والمنبهي، وأسوارها التي يعود بنائها إلى ما قبل ألف عام ما زالت قائمة كأن السنين لم تترك عليها آثار حروب أو تتابع دول وانقلابات.

 

لن أستطيع إنصاف المدينة بغير وصفِ رذاذٍ مِن جمالها، ولو أسعفني الوقت والعدل لكتبت حتى أُسكِن قارئي حدائقها وإن تأرق في الجهة المقابلة أحد حماماتها.

 

أما قصر المنبهي الذي بناه المهدي المنبهي في نهاية القرن التاسع وإليه يُنسب، فتدخله من أزقة الساحة التي تبدو لك من قصص ألف ليلة وليلة، الموسومة بساحة جامع الفناء، أو كما تكتب وتلفظ في المغرب بحذف الهمزة “جامع الفنا” قلب المدينة الدافق، فيها الأفاعي بشتى أشكالها وأحجامها مع السحرة بمزاميرهم والقردة والراقصين والعازفين، فيها الهرج والمرج ورواة أحاجي الغابرين وتاريخ السالفين. هي مزار لحجاج السياحة في البلد ونقطة التقاء لساكنيه.

 

وتعود التسمية في السرد التاريخي إلى مسجد تحت أنقاضها، وبعد بناء الساحة سميت بـ “الفِناء” نسبة لآثار المسجد الفانية، أما تأسيسها فقد تزامن مع تأسيس المدينة قبل ألف عام، ولقد تزايدت أهمية الساحة بعد بناء مسجد الكُتُبية المجاور لها وصارت معرضاً للجيوش وتجمعاً لها قبل الانطلاق لحروب التحرير الإسلامي.

 

ويميز قصر المنبهي الطراز المغربي الجميل الفريد من نوعة، تحضنه أربعة أجنحة – أو كما تسمى في المغرب “رياض” والرياض هو المنزل المبني على الطراز الأندلسي كما تسمى أيضاً النُزل أو “أوتيل” التي تحمل ذات الطراز – مزينة بلوحات جصية منقوشة وخشب محفور وبلاط ورخام يبدي الفن العربي الأصيل بجلاء، وكلها مكشوفة على باحته التي غطيت بعد تحويل القصر إلى متحف وألبست بقنديل ضخم جميل مزخرف. وزاد عليه باحة ومكتبة تقابلها تحفة فنية رخامية بألوان وزخارف في غاية الروعة، تسجل تأريخ تحويل القصر إلى متحف، ويتخلل مرافقها مقهى جميل رحب.

 

أما قصر الباهية فيعود تشييده للدولة العلوية في عهد السلطان الحسن الأول بن محمد، سنة 1894م، – أو كما يسمى في المراجع التاريخية المغاربية مولاي الحسن الأول. – وأنوه في هذا المقام إلى أن المغرب كان يسمى بـ الإيالة الشريفة حتى دخول الوصاية الفرنسية – أمر ببناء القصر أحمد بن موسى الشرقي البخاري السملالي أو كما هو معرف في المغرب بـ الباي حماد أو باحماد حاجب السلطان وكبير وزراء الدولة في عهد السلطان عبد العزيز بن الحسن بعد أبيه آنذاك.

 

وقد أشرف على بنائه مهرة البناء والنحت في الخشب والنقوش في الدولة أمثال البناء محمد بن المكي المسيوي، غير أن الأقدار لم تسمح لمن أمر ببناء هذه التحفة الفنية بأن يملي ناظريه بها، فقد استقبلته الأقدار قبل الانتهاء من البناء ومواشكته على تتمة الإنجاز وذلك بعد مضي ست سنوات. وتذكر بعض المصادر التاريخية غير الموثوقة بأن وزير الدولة وسم القصر بـ “الباهية” نسبة لاسم أحدى زوجاته “بهية” التي يعود نسبها إلى عائلة الرحامنة المعروفة في المدينة.

 

وهناك مدنٌ تغريك بالقراءة عنها وأخرى بزيارتها أو الحديث عنها، ومدنٌ تأخذك عنوة تَوَّ دخولك إياها إلى جذور تاريخها وتمنحك حافظة خاوية تبدأ مع أول مرورك بأزقتها وأبواب أسوارها وألوان بيوتها وجدرانها التي شابهت ألوان الورود بجمالها. شيوخُها من عصر مضى وشبابها فيهم ريح الجبل، قاماتٌ ممشوقة والمرأة برداء بربرية سمراء عيونها دِعجٌ حُور عربية، شعرها أملس إسبانية، ووقفت شامخة هيفاء ومضت رعبوبة عَبْلَةٌ كلها بهاء، فحذيت رأسي لمّا عرفتها العربية الأمازيغية المغربية.

 

هذه هي مُراكش بضم الميم، أو المدينة الحمراء المركز السياسي والثقافي للغرب الإسلامي إبان دولة المرابطين، ومعنى التسمية كما ورد في كلية الآداب في مُراكش ثلاثة معانٍ وهي حسب المنهاج الغربي، الذي تطرق له ابن حزم من قبل بأن التسمية ترجع إلى بعض معطيات، إلى الدلالة الطبيعية الجغرافية، العسكرية والدلالة الدينية. وماعدا ذلك فهي مسميات ثانوية. وانطلاقا من هذا المنهاج حلل اللغوي السوري الدكتور بهجت القيسي المختص في الدراسات السامية وقت استضافة الكلية له في المدينة تسمية مراكش حسب المعجم الكنعاني بأن الاسم مركب من “مر” والإسم “كش”. ومر تعني القوة والكثافة و”كش” الغابة أي “الغابة الكثيفة”. وبهذا يكون هذا المعنى الثالث بعد “مر مسرعا” والآخر التي عملت الكلية على نفيه وهو “حِمى الاله كوش”.

 

مُراكش إذن التي ترافقك النوم فتأتيك حُلُماً وتارة نوبة عصبية وأخرى مسحة امرأة ناعمة فتفيق من غير أن تستحضر المدينة القديمة وحديقة “Majorelle” ماجوريل وقصورها وطيبة أهلها تكتب لهفة وكأن البوح بالقلم عنها منجاة من ذنب تقترفه لو ما أنصفتها، وأنا لو أنصفتها لقضيت دهراً أخط سمرها وفضاءاتها، خضرتها ونقاء هوائها، أكلها ومشربها. فعذراً لأني اليوم أكتفيت برؤيا وقت كنت في أكنافها.

أحمد سليمان العمري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock